رمضان شهر عظيم بل هو أعظم شهور العام، يترقبه الناس بفارغ الصبر على اختلاف أحوالهم فالمذنبون يترقبونه للتوبة والأوبة، والاستغفار والعودة، والوعاظ والمصلحون يترقبونه لوعظ الناس وتذكيرهم.
والعُمار ينتظرونه للاعتمار، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عمرة في رمضان تعدل حجة معه، وأهل الباطل يترقبونه لنشر باطلهم وغثائهم من مسلسلات وأفلام ومسرحيات أرادوا بها صد الناس عن حسن الصيام وجميل القيام.
وقد تنوعت كلمة مشايخ الدعاة والأدباء في الحديث عن رمضان وحسن استقباله، فهذا الإمام الشهيد – بإذن الله تعالى – حسن البنا يقول في استقبال رمضان: "مرحباً بطلعة الوليد الحبيب بشير الخير العميم، هلال رمضان ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء العام، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام، فاللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والطمأنينة والسلام، هلال خير ورشد، إن شاء الله، والله أكبر والحمد لله".
وقال الأستاذ: الكبير، عضو هيئة كبار العلماء في مصر، وهو ممن جمع بين الثقافتين العربية والفرنسية، وكان له مؤلفات بهما، توفي سنة 1377/ 1957، رحمه الله تعالى، قال: " واستدار الزمان، وعاد شهر رمضان، عاد إلينا بعد أن نسينا كثيراً، وبعد أن سبحنا في شؤون دنيانا سبحاً طويلاً عاد رمضان، وقدر لنا أن نعود لنشهد أيامه الغراء، ونحيي لياليه الزهراء، ترى هل يمتد بنا العمر فنعود إليه كرة أخرى؟ أم هل يسبق الأجل فلا نلقاه بعد عامنا هذا؟
الا من أتخذ عند الله عهداً أنه سيُنسأ له في أجله، حتى يلقى رمضان في عام قابل، معافى في بدنه موفوراً في رزقه، ممكناً من تدارك أمره، صادقاً في نيته، راشداً في عزيمته، من اتخذ عند الله عهداً بذاك، فليبطئ ما شاء الله أن يبطئ في عمله، وليسترسل ما شاء الله أن يسترسل في أمله، وليسوف وليؤجل ما بدا له أن يسوف ويؤجل، أما والقدر مستور محجب، والأجل قد ينتهي في لمحة، والساعة لا تأتي إلا بغتة فمن الحق – والله – أن نبيع حاضراً بغائب، وأن نستبدل شكاً بيقين".
وقال الأستاذ محب الدين الخطيب، وهو من كبار كتاب العربية في هذا العصر، وهو شامي ثم مصري، صاحب المكتبة السلفية ومطبعتها، وقد توفي بالقاهرة سنة 1389/ 1969 رحمه الله تعالى، قال: "أليس في الصائمين منا من ينحرفون عن حكمة الصيام وكماله بما يكيدون به للناس من شر، وما تتحرك به ألسنتهم من باطل، وما يسخطون به ربهم فيما بين سحورهم وإفطارهم.
وما يقضون به سهراتهم من الإفطار إلى السحور، وما ينفقون على شهواتهم من أموال يزعمون أنها لهم، وإنما هي أمانة الله تحت أيديهم يمتحنهم بها ليعلم كيف يتصرفون فيها بعقل وكياسة وحكمة، وفيهم من يذكرون الله، ولكنهم يذكرونه بألسنتهم دون قلوبهم، وإذا حلت ساعات السحور، أو الإفطار ملأوا بطونهم بما جاء رمضان ليكفهم عن الإسراف فيه.
إن الشيطان قد نجح – فيما مضى من شهور رمضان السالفة – في إقناع أشباه الرجال منا بأن يفسدوا على أنفسهم صيامهم ببعض ما يخالف حكمة الله في الصيام، وشعائر الصيام، وأنظمة الصيام، فهل لنا أن نخزي الشيطان في رمضاننا هذا، فنحكم بعزائمنا الإسلامية على نفوسنا الإسلامية توطئة لإعدادها لما يريده الله لنا من أمر عظيم، في مستقبل عظيم، نحكم فيه أوطاننا الإسلامية بآدابنا الإسلامية، لننهض بهذه الأمة إلى مستوى السيادة والسعادة في الأرض؟ !
كما أن الإسلام دين الحق، فهو كذلك دين الصبر والاعتدال والاقتصاد.
ورمضان إنما تقوم فينا شعائره لنقيم بها الحق، ولنتعود بها على الصبر، ولنكون فيها من أهل الاعتدال، والاقتصاد.
كنا نشكو الاستعمار، ونشكو حكام السوء، ونضيف إليهم كل سيئة تقع في أوطاننا، وكل ضعف أصيبت به شعوبنا، وفي الواقع كان الاستعمار مصدر الشرور والسيئات فيما أصابنا من ضعف، وكان حكام السوء قدوة الدهماء، والوارثين فيما انحدرنا إليه من تبذير وإسراف وإسفاف.
ولكن سياسة الإسلام كانت تهتف بمن يعقل عنها منادية على ملأ الأشهاد: كما تكونون يول عليكم، فنحن الذين أهملنا سنن ديننا ونظام الإسلام في حياتنا فوقعنا بين براثن الاستعمار، ونحن الذين أسففنا وأسرفنا فابتلانا الله بحكام السوء، ولو أننا استقمنا على سنة الإسلام في معيشتنا وتصرفاتنا لكف الله عنا سلطان الاستعمار، ولوقانا شر حكام السوء".
وقال الأستاذ الأديب أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الشهيرة، وأحد كبار كتاب العربية في هذا العصر، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، المتوفى بالقاهرة سنة 1388/ 1968 رحمه الله تعالى، قال: "بعد أحد عشر شهراً قضاها المسلمون في جهاد العيش وصراع المادة فقاسوا في صيفها سُعار الشهوات، وكابدوا في خريفها خمود المشاعر.
وعانوا في شتائها موت الضمائر يأتيهم ربيع الأرواح في رمضان فيحيي موات قلوبهم بالبر، ويوقظ رواقد نفوسهم بالذكر، ويرجع بأرواحهم إلى منبعها الأزلي فتبرأ من أوزار الحياة وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من مذخور الخير بما يقويها على احتمال المحن والفتن في دنيا الآمال والآلام بقية العام كله".
وقال الأستاذ الداعية محمد الغزالي، رحمه الله تعالى: "يجيء رمضان فتبدأ قصة الصيام، وأنا لا أعلق على صيام المسلمين لأني أعلم أن رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، شهر الأكل والمتع، وليس شهر تدريب الغرائز وتكوين الإرادات، دعنا من هذا فلا أتحدث عنه إنما أتحدث عن ليالي رمضان، فإن الله – جل شأنه – لأمر ما أنزل كتابه في هذا الشهر، بدأ نزول القرآن في شهر رمضان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاعف من إقباله على القرآن الكريم.
ومن مدارسته له يضاعف، فهو طول العام يقرأ القرآن، ولكنه في شهر رمضان يضاعف الدراسة، وكلمة الدراسة شيء آخر غير القراءة العابرة، أو التلاوة المجردة، لأن القراءة العابرة نوع من حفظ الحروف، التلاوة المجردة نوع من ترتيل الكلمات، لكن روح القرآن في معانيه.
ويوم تقرع المعاني نفوس الناس، ومع ذلك تبقى هذه النفوس موصدة الأبواب، تبقى وعليها أقفالها فإن المشكلة كبيرة (ومن أظلم ممن ذكر بايت ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) السجدة: ٢٢ ".
هذه بعض النصوص الواردة عن أعلام علماء كان لأعمالهم وكلماتهم أثر كبير، وما زلنا محتاجين إلى هذه المعاني والكلمات إلى يوم الناس هذا، على أن الأمة الإسلامية قد خططت خطوات واسعة في مسيرة الصحوة والعودة والأوبة، والله المستعان.
الكاتب: الدكتور محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ